
منطقة البحر الأبيض المتوسط (أخبار إنمائية) — تشهد مناطق عدة حول العالم تصاعداً غير مسبوق في حرائق الغابات الكارثية التي تثير تساؤلات حيوية حول قدرة النظم البيئية المتضررة على التعافي والمدة التي تتطلبها هذه العملية. تُظهر الدراسات والتجارب التاريخية أن الغابات والنظم البيئية قادرة بطبيعتها على التجدد بعد الحرائق، لكن التحديات المناخية المتزايدة وسلسلة التأثيرات المرتبطة بها تضيفان أبعاداً جديدة تتطلب تضافر الجهود البشرية لدعم هذا التعافي.
على سبيل المثال، أثارت الحرائق الأخيرة في مناطق مثل جبال اللاذقية السورية وغابات تركيا وحتى في جنوب كاليفورنيا، جدلاً واسعاً حول مدى قدرة هذه النظم المعقدة والمتنوعة على استعادة توازنها الطبيعي. والواقع أن الطبيعة تمتلك آليات متطورة منذ ملايين السنين تعتمد على حرائق دورية تلعب دوراً أساسياً في إعادة التوازن البيئي، وتعمل كعامل محفز لتعزيز التنوع البيولوجي وصمود النظام البيئي.
تشير الدراسات البيئية إلى أن النار ليست سوى جزء من دورة الحياة في الغابات والمراعي، حيث تتيح الحرائق ظهور بقع أرضية مفتوحة تخلق بيئات جديدة تخلو من المنافسة والمفترسات، مما يمهد الطريق أمام نمو أنواع نباتية وحيوانية جديدة بمرونة أكبر، وهو ما يُعرف بـ"التعاقب البيئي".
تُظهر تجارب مثل حرائق متنزه يلوستون الوطني في الولايات المتحدة عام 1988 قدرة الطبيعة الهائلة على التعافي؛ فبعد عقود من الحرائق، بات المتنزه اليوم يشهد حياة غابية مزدهرة وكأن كارثة الحريق لم تحدث.
مدة التعافي البيئي تختلف باختلاف شدة الحريق، وحجم المساحات المتضررة، ونوعية النظام البيئي ذاته. تبدأ المراحل الأولى بظهور الكائنات الدقيقة والنباتات الرائدة التي تنتقل بواسطة الرياح لتغرس بذورها في التربة المحترقة، وتعمل هذه المستعمرات الأولية على تحسين جودة التربة وتمهيد الطريق لنمو النباتات الأكثر تنوعاً.
عادةً ما تتطلب هذه النباتات سريعة النمو ضوء الشمس، فتزدهر في المساحات المكشوفة حتى تغطي الأشجار الأكبر المناطق بظلالها، وعندها تنتقل الأنواع الأخرى إلى أطراف الغابات أو الحقول المجاورة. كما تعود الحيوانات تدريجياً مع استعادة النباتات، حيث تتقدم الفرائس الصغيرة مثل القوارض والحشرات والطيور، لتتبعها لاحقاً الحيوانات المفترسة، مما يعكس تعافياً تدريجياً للنظام البيئي.
في ظل التغيرات المناخية المتسارعة، والتي تجلب معها ظواهر جوية عنيفة مثل موجات الحر والجفاف المستمر، تزداد وتيرة وشدة حرائق الغابات، كما شهدت مناطق عدة في البحر المتوسط، خاصةً في سوريا وتركيا، حرائق واسعة خلفت خسائر بيئية جسيمة.
يُظهر البحث العلمي أن ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض رطوبة التربة يسهمان بشكل كبير في زيادة هشاشة الغابات، ويقللان من فرص نمو النباتات الجديدة بعد الحرائق، مما يعرقل تعافي النظم البيئية على المدى الطويل. ففي كثير من الحالات، تفشل مساحات واسعة من الغابات المتضررة في استعادة كثافتها النباتية وإنتاجيتها خلال فترة سبع سنوات، وهي فترة حاسمة لمرحلة التعافي الأولي.
لذا، لا تقتصر مسؤولية التعافي على الطبيعة وحدها، بل يتطلب الأمر تدخلات بشرية مدروسة، من خلال تعزيز برامج إعادة التشجير واستخدام النباتات الرائدة التي تسرع من استعادة التنوع البيولوجي. تساهم هذه الجهود في تعزيز مرونة الأراضي وقدرتها على مقاومة الحرائق المستقبلية، فضلاً عن تحسين جودة الهواء والمياه وحماية التنوع البيولوجي.