
بيروت، لبنان (أخبار إنمائية) — لطالما عُرف لبنان بتنوع مصادره المائية، من أنهار وينابيع وأمطار سنوية غزيرة. إلا أن البلاد تشهد في السنوات الأخيرة ضغوطًا مائية متصاعدة باتت تشكل خطرًا فعليًا على الزراعة والخدمات العامة والحياة اليومية للسكان. ورغم وفرة موارده الطبيعية، يواجه لبنان موجات جفاف متكررة، وتصحرًا متزايدًا، وتراجعًا في وفرة المياه العذبة، في وقت يشير فيه الخبراء إلى مزيج من التغيرات البيئية والتحديات المتعلقة بالبنية التحتية كأسباب رئيسية لهذه الأزمة.
وفي حين يُعد تغيّر المناخ أحد العوامل المساهمة في تغيّر أنماط الهطول وتراجع تراكم الثلوج، يُجمع المتخصصون على أن حسن إدارة الموارد وتطوير البنية التحتية يظلان عنصرين أساسيين في الحد من حدة الأزمة.
موارد طبيعية تحت الضغط
أتاحت الجغرافيا اللبنانية للبلاد ميزة نسبية على صعيد توافر المياه، إذ تضم أكثر من اثني عشر نهرًا رئيسيًا، وآلاف الينابيع، ومخزونًا كبيرًا من المياه الجوفية. غير أن جزءًا كبيرًا من هذه المياه لا يصل بفعالية إلى المنازل والأراضي الزراعية.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 50% من المياه في بيروت تُفقد بسبب التسرب في الأنابيب القديمة، بينما تتجاوز النسبة 65% في المناطق الريفية. وعلى المستوى الوطني، يُهدر أكثر من نصف المياه السطحية ويُصب في البحر نتيجة ضعف القدرة التخزينية وغياب البنية التحتية الكافية.
ويرى الخبراء أن تعزيز الصيانة، وتحديث شبكات التوزيع، وبناء منشآت تخزين فعّالة يمكن أن يسهم بشكل كبير في الحد من الهدر وتحسين إيصال المياه، خصوصًا في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية مثل بيروت الكبرى، التي يقطنها نحو مليوني نسمة.
دراسات علمية تدق ناقوس الخطر
سلّطت دراسة نُشرت عام 2021 للباحثين جاد سعادة، مايا عطية، صوفيا غنيمة، وغولمار غولمحمدي، الضوء على تراجع ملحوظ في وفرة المياه في مختلف أنحاء لبنان. وخلصت الدراسة إلى أن 37% فقط من السكان لديهم إمكانية الوصول إلى مياه شرب آمنة، فيما لا تتجاوز نسبة المستفيدين من خدمات الصرف الصحي الآمن 20%.
كما بيّنت الدراسة أن تدفق 12 نهرًا رئيسيًا انخفض بنسبة تفوق 23% مقارنة بمستويات عام 1965، فيما تجف بعض هذه الأنهار لأكثر من تسعة أشهر في السنة. واختفت نحو 60% من الينابيع، بينما تراجع تدفق 60 مجرى مائي موسمي بنسبة 50%.
وفي حال استمرار هذه الاتجاهات، توقعت الدراسة أن يواجه لبنان عجزًا مائيًا يُقدّر بنحو 610 ملايين متر مكعب بحلول عام 2035. في المقابل، تبلغ القدرة التخزينية للمياه في البلاد نحو 6% فقط من إجمالي الموارد، مقارنةً بمتوسط 85% في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وتوقعت الدراسة أيضًا آثارًا اقتصادية محتملة، إذ قد تبلغ كلفة نقص المياه المستخدمة في الزراعة والمنازل والصناعة نحو 32 مليون دولار سنويًا بحلول عام 2040، لترتفع إلى 1.2 مليار دولار بحلول عام 2080. أما على صعيد الطاقة الكهرومائية، فقدّرت الدراسة خسائر محتملة بقيمة 31 مليون دولار بحلول عام 2040، و110 ملايين دولار بحلول عام 2080.
ارتفاع التكاليف المنزلية رغم تراجع الاستهلاك
على مستوى الأفراد، تتزايد الأعباء المعيشية المرتبطة بأزمة المياه. فعلى الرغم من تراجع استهلاك الفرد بنسبة تُقدّر بـ30%، إلا أن الكلفة الشهرية للحصول على المياه في ارتفاع مستمر.
وبحسب شركة "الدولية للمعلومات"، تنفق الأسرة اللبنانية حوالي 40 دولارًا شهريًا لتأمين المياه من مصادر بديلة كالمياه المعبأة أو صهاريج التوزيع. ومع تحديد الحد الأدنى الجديد للأجور عند 312 دولارًا شهريًا، تمثل كلفة المياه حوالي 13% من الدخل الشهري الأدنى، مقارنة بـ8% في مصر و6% في العراق.
انعكاسات مقلقة على الزراعة والأمن الغذائي
تأثر القطاع الزراعي بشكل ملحوظ نتيجة نقص المياه والجفاف، ما أدى إلى انخفاض الإنتاج، الذي قد يصل في بعض الفترات إلى 20% من المعدلات الطبيعية. وقد اتجه العديد من المزارعين نحو استخدام تقنيات ري حديثة، فيما لجأ آخرون إلى حفر الآبار للحصول على المياه الجوفية، غالبًا من دون تراخيص رسمية.
ورغم أن حفر الآبار يوفّر حلولًا مؤقتة، إلا أن الخبراء يحذرون من الإفراط في الاعتماد عليها، لما قد تسببه من استنزاف للمياه الجوفية، واختفاء للينابيع، وتسرّب للمياه المالحة إلى التربة، فضلًا عن تدهور نوعية الأراضي الزراعية.
وبحسب مصلحة الأرصاد الجوية، انخفض معدل الهطول خلال موسم شتاء 2024–2025 بنسبة تزيد عن 50% مقارنة بالعام السابق. كما لحقت أضرار إضافية بالأراضي الزراعية في جنوب البلاد نتيجة النزاع الأخير، من بينها حرائق ناجمة عن استخدام ذخائر فوسفورية، بالإضافة إلى القيود المفروضة على حركة المزارعين في القرى الحدودية.
وفي سياق متصل، أفادت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) أن إنتاج الحبوب الأساسية، مثل القمح والشعير والذرة، انخفض بنسبة 38.4% خلال عام 2024. أما بالنسبة لعام 2025، فيشير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) إلى أن نحو 1.17 مليون شخص في لبنان يواجهون حالة انعدام أمن غذائي حادة (المرحلة الثالثة)، مما يدفع العديد من الأسر إلى تقليص كمية ونوعية الأغذية المستهلكة.
ويواكب هذا التراجع في الإنتاج المحلي زيادة في واردات القمح بنسبة ملحوظة، في ظل انخفاض التحويلات المالية من الخارج بنسبة 13%، وهو أكبر تراجع مسجل منذ عام 2007.
خطط وشراكات نحو المعالجة
في كانون الثاني 2025، أطلقت وزارة الزراعة، بالتعاون مع المنظمة العربية للتنمية الزراعية، أول خطة وطنية لإدارة الجفاف في لبنان. وفي تصريحات حديثة، أكد وزير الزراعة نزار هاني أن شحّ المياه والتصحر وتحقيق السيادة الغذائية تمثل أولويات أساسية للوزارة خلال المرحلة المقبلة.
من جهته، وقّع وزير المالية ياسين جابر في أيار 2025 اتفاقية مع البنك الدولي بقيمة 257.8 مليون دولار، تهدف إلى تطوير شبكة المياه في بيروت، وتعزيز إصلاحات أوسع في قطاعي المياه والزراعة. ويأتي هذا المشروع ضمن مساعٍ أشمل لتحديث إدارة الموارد الطبيعية في لبنان وتقليص الهشاشة البيئية.
ورغم أن الجدول الزمني لتنفيذ هذه المبادرات لا يزال غير واضح، يُجمع الخبراء على أهمية التخطيط المتكامل، والاستثمار في البنية التحتية، وتحسين كفاءة استخدام المياه، لضمان استدامة الموارد في المستقبل القريب.