مغارة جعيتا ليست مجرد مقصد سياحي؛ بل هي أرشيف جيولوجي حي.
مغارة جعيتا ليست مجرد مقصد سياحي؛ بل هي أرشيف جيولوجي حي.

لبنان - (خاص إنمائية) 4 تشرين الثاني 2025

أثار احتفال حديث قبل الزفاف داخل مغارة جعيتا، المعلم الطبيعي الشهير عالميًا في لبنان، موجة من الغضب على الصعيد الوطني وقلق العلماء والبيئيين. الحدث، الذي تضمن موسيقى صاخبة، إضاءة، وحشدًا كبيرًا من الناس، انتهك قواعد الحفاظ على هذا البيئة الطبيعية الحساسة للغاية.

كنز وطني وعلمي

مغارة جعيتا ليست مجرد مقصد سياحي؛ بل هي أرشيف جيولوجي حي. تشكلت على مدى ملايين السنين في الحجر الجيري، وتحتوي على الهوابط والتدفقات الكلسية الفريدة التي تسجل تغيرات المناخ والزلازل والظروف البيئية، ككتاب تاريخ طبيعي منحوت في الصخور. البيئة داخل المغارة تبقى مستقرة بفضل درجة الحرارة والرطوبة الثابتة، ما يسمح لهذه التشكيلات بالنمو البطيء والحفاظ على حالتها البكر.

يشكل النظام البيئي لمغارة جعيتا جزءًا من نظام كَرْسْتِي، وهي مناظر طبيعية تتشكل نتيجة تآكل الحجر الجيري بالمياه. وتعد أنظمة الكارست من أكثر النظم البيئية هشاشة على كوكب الأرض، ومع ذلك فإن الحفاظ عليها أمر حيوي؛ فهي توفر مياه الشرب، حيث تزود نحو 25% من المياه العذبة العالمية، وتلعب دورًا رئيسيًا في تنظيم المناخ من خلال امتصاص ثاني أكسيد الكربون الطبيعي.

كما تحمل هذه الأنظمة قيمة علمية لا تُقدَّر بثمن، مع تشكيلات دقيقة تتكون على مدى قرون، ما يوفر نافذة فريدة على التاريخ الجيولوجي والبيئي للكوكب.

لماذا يعتبر الاحتفال داخل المغارة ضارًا للغاية

قد يبدو الاحتفال داخل المغارة نشاطًا غير ضار، لكنه بعيد جدًا عن ذلك. فالنظام البيئي الدقيق داخل المغارة تطور على مدى ملايين السنين، وأي اضطراب قصير يمكن أن يتسبب في أضرار دائمة.

الحرارة والرطوبة

كل شخص داخل المغارة يطلق حرارة تقريبًا مثل مصباح صغير. وعندما يتجمع مئات الأشخاص، يمكن أن ترتفع درجة حرارة المغارة بشكل كبير. هذا "الصدم الحراري" المفاجئ يخل بالرطوبة التي عادةً ما تكون قريبة من 100%. ومع ارتفاع الهواء وانخفاض الرطوبة، تبدأ الهوابط والتدفقات بالتجفيف وفقدان لمعانها الطبيعي، وفي بعض الحالات قد يتوقف نموها إلى الأبد.

ثاني أكسيد الكربون: الضرر الخفي

يزفر البشر ثاني أكسيد الكربون (CO₂)، وفي المساحات المغلقة بسرعة ترتفع مستوياته. وعندما يختلط CO₂ بالماء، يتكوّن حمض كربوني يذيب ببطء المعادن (الكالسيت) التي تشكل التشكيلات المميزة للمغارة. هذا يعني أن هذه العجائب الطبيعية تبدأ بالتآكل بدلًا من النمو، ما يمحو جزءًا من التراث الجيولوجي اللبناني.

الضوضاء والاهتزاز: أثر الموسيقى الصاخبة

الموسيقى الصاخبة والرقص والاهتزازات من الصوت المكبر قد تبدو غير ضارة للبشر، لكنها تدمر حياة الكائنات الصغيرة داخل المغارة. فالخفافيش والكائنات الدقيقة تعتمد على الهدوء والهواء المستقر، وقد أظهرت الدراسات أن الأصوات العالية تقلل نشاط الخفافيش بنسبة تصل إلى 50%، مما يجبرها على الهروب إلى أعماق المغارة أو مغادرتها بالكامل.

التلوث البيولوجي: التهديد الخفي

يزرع الزوار دون قصد الغبار، الشعر، وبر النسيج والجراثيم، التي تصبح غذاءً للكائنات الغريبة. ومع الإضاءة الاصطناعية، يشجع ذلك نمو "Lampen flora"، وهي الطحالب والبكتيريا الخضراء التي تلوث جدران وتشكيلات المغارة بشكل دائم. وبمجرد انتشارها، يصعب إزالتها دون التسبب في أضرار إضافية.

خرق الواجب

وفقًا لبيان رسمي صادر عن وزارة السياحة بتاريخ 3 نوفمبر 2025، نظمت بلدية جعيتا الحدث دون موافقة كتابية من الوزارة ودون استشارة نادي الاستكشاف الكهفي في لبنان الذي يشرف على سلامة المغارة العلمية.

وأكدت الوزارة أنها سترسل تحذيرًا رسميًا للبلدية لانتهاكها الالتزامات التعاقدية والأخلاقية، مشددة على أنه لا يجوز إجراء أي فعالية من هذا النوع دون موافقة كتابية مسبقة ومراجعة بيئية وفق القوانين الوطنية وتعميم رئاسة مجلس الوزراء رقم 36/2025، الذي يحظر استخدام المواقع التراثية العامة أو الوطنية بدون ترخيص رسمي.

وأشارت الوزارة إلى دور البلدية في إعادة فتح الموقع وإدارته بعد فترة إغلاق، لكنها شددت على أن الحفاظ على مغارة جعيتا أولوية مطلقةتتفوق على أي استخدام تجاري أو احتفالي مؤقت.

استعادة الحماية والمساءلة

يدعو الخبراء الحكومة إلى اعتماد أفضل الممارسات الدولية لحماية الكهوف اللبنانية الهشة، بما في ذلك تحديد أعداد الزوار حتى تعود درجة الحرارة ومستوى ثاني أكسيد الكربون إلى الوضع الطبيعي بين الزيارات.

ويجب أن تخضع أي نشاطات مقترحة داخل المغارة لمراجعة خبراء لضمان عدم الإضرار بالتشكيلات الدقيقة أو إزعاج النظام البيئي.

الأهم من ذلك، فرض حظر دائم على جميع الفعاليات عالية الطاقة بما في ذلك الموسيقى الصاخبة، التجمعات الكبيرة، والإضاءة غير العلمية، لحماية هذه الأعجوبة الطبيعية للأجيال القادمة.

تؤكد حادثة جعيتا أن المغارة نفسها هي "الكنز الذهبي"، وأن الاستغلال التجاري المؤقت لا يجب أن يتجاوز أبدًا الحفاظ طويل المدى واللازم لتراثها العلمي والبيئي الفريد.