دعا مامداني إلى تجميد الإيجارات وتحسين حقوق العمال.
دعا مامداني إلى تجميد الإيجارات وتحسين حقوق العمال.

أميركا (خاص إنمائية) -10 تشرين الثاني 2025

في خطابٍ اتّسم بنبرة احتجاجية، أعلن زهران ممداني، العمدة الجديد لنيويورك، أنّ "المدينة التي أحبّها العمّال لم تعد قادرة على احتضانهم". كما دعا إلى تجميد الإيجارات، وتوسيع حقوق العمّال، وبناء نظام رعاية اجتماعية شامل يضع الإنسان قبل السوق.

وتحدث ممداني عن توزيع الثروة، نقل عام سريع ومجاني، ورعاية أطفال شاملة، وتوظيف آلاف المعلّمين، مؤكّدًا أنّ "السياسة لن تكون بعد اليوم شيئًا يُفرَض علينا، بل شيئًا نشارك في صنعه".

لكن هل هذه السياسات قابلة للتحقيق في نيويورك وقريبة للواقع، وماذا تعني لبلد مثل لبنان؟

في مقابلة خاصة مع إنمائية، رأى الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان أنّ السياسات التي دعا إليها ممداني، والتي تركّز على توسيع حقوق العمّال وتجميد الإيجارات، تعبّر عن رؤية اجتماعية تنموية، لكنها تتعارض مع مبادئ الاقتصاد الحرّ القائم على مرونة السوق وتحرير الأسعار.

التضخّم وضبط الإيجارات

وأوضح أبو سليمان أنّ "في أي اقتصاد نامٍ أو متقدّم، تُربط الإيجارات عادةً بمؤشّر التضخّم  (Inflation Index) وعلى ضوئه تُصحّح العقارات والأجور".

وأضاف: "في الأسواق الحرة، ضبط الإيجارات بشكل مباشر لا يُعدّ من فلسفة الاقتصاد الليبرالي، إذ يقتصر التدخّل المشروع على ربطها بمؤشّرات كلفة المعيشة، أمّا فرض سقوف أو تجميد الإيجارات فيحوّل النظام الاقتصادي إلى موجّه، ويتناقض مع مبادئ الحرية الاقتصادية".

إعادة توزيع الثروات

وحول ما طرحه ممداني عن إعادة توزيع القوة الاقتصادية من الأغنياء إلى الطبقات العاملة، أكّد أبو سليمان أنّ "إعادة توزيع الثروات (Wealth Redistrubution)  هي من مهام الدولة، وتتحقّق من خلال سياسات ضريبية تصاعدية مدروسة".

وأوضح أنّ "في الولايات المتحدة، لكل ولاية نظامها الضريبي المختلف، ما يسمح بإعادة تنظيم الثروات من دون المسّ بحرّية السوق، لكن لا يمكن عبر هذه السياسات إعادة توزيع القوى العاملة نفسها".

تحديات النمو في نيويورك

واعتبر أبو سليمان أنّ "سياسات ممداني تمثّل توجّهاً مناقضاً للنهج الليبرالي الذي طبع إدارة الرئيس دونالد ترامب"، مضيفًا أنّ "مدينة نيويورك تواجه تحدياً كبيراً لتحقيق تنمية اقتصادية متوازنة، لأنها مركز وول ستريت والرأسمالية العالمية، وفيها شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي التي تشكّل المحرك الأساسي للنمو".

"إنّ تحقيق التوازن بين مصالح هذه الشركات وحقوق القوى العاملة سيكون من أبرز التحدّيات أمام الإدارة الجديدة في الولاية".

لا تشابه مع التجارب الآسيوية

ورداً على سؤال حول ما إذا كانت رؤية ممداني تشبه تجارب اقتصادية في أميركا اللاتينية أو آسيا، أشار أبو سليمان إلى أنّ "الصين مثلاً انتقلت من الاشتراكية إلى الليبرالية، لكنها تعتمد على الصناعة والتصدير، فيما اقتصاد نيويورك يقوم على الخدمات والتكنولوجيا، وبالتالي لا يمكن المقارنة بين التجربتين".

لبنان: غياب العدالة الاجتماعية

وفي سياق المقارنة، تطرّق أبو سليمان إلى الوضع في لبنان، قائلاً إنّ "العدالة الاجتماعية والحماية الاجتماعية غير موجودتين حالياً، إذ إنّ موازنة 2026 التي لم تُقر بعد لا تتضمّن أي حماية حقيقية للطبقات الضعيفة، كما أنّ النظام الضريبي لا يعتمد التصاعدية التي تسمح بإعادة توزيع الثروات".

وأضاف: "لبنان ما زال يعيش في إطار الاقتصاد الريعي القائم على الخدمات والتحويلات، ولم يتمكّن بعد من بناء بيئة إنتاجية أو تنافسية في مجالات التكنولوجيا أو الاقتصاد الرقمي".

أزمة السكن أعمق من الإيجارات

وعن طرح ممداني تجميد الإيجارات كوسيلة لمعالجة أزمة السكن، قال أبو سليمان إنّ "هذا الحلّ بالنسبة للبنان لا يمكن فصله عن إصلاحات شاملة"، موضحاً أنّ "الأزمة تشمل غياب البنى التحتية في الأرياف، وتعطّل القروض السكنية، وضعف القطاع المصرفي، وغياب سياسات الإسكان الشعبي".

وأضاف أنّ "المشكلة أعمق من تثبيت الإيجارات، إذ تتعلق بغياب التخطيط العمراني والتمويل المنظّم للقطاع السكني".

رأس المال البشري… الخسارة الأكبر

ورداً على موضوع "اقتصاد يضع الإنسان قبل السوق" الذي تحدّث عنه ممداني، شدّد أبو سليمان على أنّ "رأس المال البشري هو الثروة الحقيقية للبنان، لكن البلاد تخسرها بفعل الهجرة المتزايدة".

وقال: "منذ عام 2019 وحتى اليوم، هاجر ما بين 570 و700 ألف لبناني، 70% منهم من الشباب، وهذه خسارة لا تُعوّض إلا عبر خلق بيئة حاضنة قائمة على الاستقرار الأمني والسياسي والبنى التحتية".

عقد اجتماعي جديد… بشروط لبنانية

وفي ختام حديثه، تطرّق أبو سليمان إلى دعوة ممداني إلى "صفقة اجتماعية جديدة" قائلاً إنّ "أي عقد اجتماعي جديد في لبنان يتطلّب توافقاً وطنياً واسعاً يشمل الشقين الاقتصادي والسياسي".

وأشار إلى أنّ "مواضيع مثل اللامركزية والأزمة المصرفية والتجاذبات المالية يجب أن تُطرح بوضوح على الطاولة، لأنّ أي عقد اجتماعي جديد لا يمكن أن ينجح من دون معالجة هذه القضايا البنيوية".

يبقى جوهر خطاب ممداني مرتبطًا بحقوق الإنسان الأساسية: كرامة المواطن، الأمن الاجتماعي، وفرص متساوية للجميع. فسواء في نيويورك أو في لبنان، تذكّرنا هذه السياسات بأن العدالة الاجتماعية ليست رفاهية، بل حق يجب أن يحظى به كل إنسان، وأن السياسة هي وسيلة لضمان هذا الحق، لا أداة لتهميشه.

يبقى جوهر خطاب ممداني مرتبطًا بحقوق الإنسان الأساسية: كرامة المواطن، الأمن الاجتماعي، وفرص متساوية للجميع. فسواء في نيويورك أو في لبنان، تذكّرنا هذه السياسات بأن العدالة الاجتماعية ليست رفاهية، بل حق يجب أن يحظى به كل إنسان، وأن السياسة هي وسيلة لضمان هذا الحق، لا أداة لتهميشه.