
يسافر ملايين الأشخاص سنوياً للحصول على خدمات طبية، ما يساهم في صناعة عالمية بمليارات الدولارات تعيد تشكيل أسواق الرعاية الصحية والسياحة الطبية.
في هذا السياق، يمتلك لبنان تاريخاً مشهوداً في تقديم الخدمات الطبية العالية الجودة، ما جعله لسنوات عديدة مستشفى الشرق الأوسط. غير أن التحديات الاقتصادية الأخيرة، وتراجع البنى التحتية الرقمية، وضعف الاستثمار الصحي، حدّت من قدرة القطاع الصحي الخاص على الحفاظ على موقعه الريادي في السياحة الطبية.
لفهم الواقع الحالي، قمنا بدراسة كاملة لمواقع المستشفيات الخاصة في لبنان، وذلك بهدف قياس مدى جاهزية هذه المواقع لاستقطاب المرضى الدوليين ودعم قطاع السياحة الصحية. اعتمد البحث على تقييم كامل لمواقع المستشفيات الخاصة في لبنان والبالغ عددها 112 وفق بيانات وزارة الصحة. ورغم شمولية البحث، كشفت الدراسة عن مشكلة بنيوية في القطاع الرقمي: 44 موقعاً إلكترونياً غير فعّال، ما أدى إلى استبعادها من التقييم، ليقتصر التحليل على 68 موقعاً نشطاً فقط.
تميزت أداة القياس بكونها شاملة على ثلاثة محاور أساسية: أولاً مستوى الوصول (Accessibility)، ثانياً اعتماد الجودة (Credential of Institution)، ثالثاً معايير التواصل (Communication). وتغطي هذه الأبعاد جوانب مهمة للمرضى مثل سهولة التصفح، جودة المعلومات، شفافية الخدمات الطبية، وقنوات التواصل. كما تم تحديد مستويات الأهمية لكل بُعد بين إجباري واختياري، مما يعزز من دقة القياس ويمنح نتائج أكثر تفصيلاً.
أدى هذا التقييم إلى تصنيف المواقع الإلكترونية عبر أربعة فئات: مواقع معلوماتية (Informative) تقتصر على تقديم معلومات أساسية، مواقع تواصلية (Communicative) تتيح تفاعلاً محدوداً ثنائي الاتجاه، مواقع تعاونية (Collaborative) تقدم خدمات متقدمة، ومواقع تمكينية (Empowered) تقدم خدمات متطورة وشبه فورية.

أظهرت الدراسة أن معظم مستشفيات لبنان لا توفر معلومات واضحة عن التكاليف، التغطية التأمينية، مؤهلات الطاقم الطبي، أو إرشادات العلاج قبل وبعد العمليات الجراحية، ما يقلل من ثقة المرضى. بعض المستشفيات ظهرت لديها بوادر تقدم مثل تقديم حزم علاجية للمرضى الأجانب، معلومات عن التأمين الدولي، وعرض للتخصصات الطبية المتميزة، إلا أن هذه المبادرات تبقى فردية وغير ممنهجة على المستوى الوطني.
أبرز التحديات التي رصدتها الدراسة تشمل:
غياب التواصل بلغات غير الإنجليزية والعربية.
ضعف المحتوى الإرشادي.
نقص خدمات المساعدة الفورية.
غياب منظومة متابعة للمرضى مثل المعالجة عن بُعد، أو خطط مواكبة للمرضى الدوليين بعد عودتهم إلى بلادهم.
استناداً إلى النتائج، تبرز توصيات علمية يمكن أن تعتمدها المستشفيات والوزارات والقطاع الخاص:
بناء حضور رقمي حديث، مؤهل ومتعدد اللغات.
إنشاء وحدات استشفائية متخصصة بخدمات المرضى الدوليين.
تعزيز الشراكات الدولية عبر التعاون مع شركات التأمين والمشاركة في المؤتمرات الطبية العالمية.
تطوير الخدمات الطبية الشاملة بما يشمل الإقامة، النقل، والترجمة.
اعتماد الشفافية ورفع الثقة عبر نشر التكاليف، توثيق المؤهلات، عرض تقييمات المرضى، ونشر بروتوكولات السلامة والجودة.
إدراج خدمات المعالجة عن بُعد.
مواءمة الجهود مع السياسات الحكومية لإطلاق حملة وطنية للسياحة الطبية وتقديم حوافز للمؤسسات التي تطور خدماتها الدولية.
يمتلك لبنان المقومات الطبية والبشرية التي تؤهله لاستعادة مكانته كوجهة علاجية متقدمة، إلا أن ذلك يتطلب تطويراً منظماً يشمل الرقمنة، الشفافية، الشراكات، والخدمات الداعمة قبل وبعد العلاج. وتبرز أهمية دراسة جاهزية المستشفيات الخاصة لكونها تقدم خارطة طريق واضحة يمكن أن يعتمدها صناع القرار والمستشفيات معاً. إن الاستثمار في خدمات الصحة الدولية ليس خياراً ثانوياً، بل فرصة لإعادة النمو الاقتصادي وتعزيز جودة الرعاية الصحية وتقديم صورة مشرقة عن لبنان على المستوى العالمي.