يواجه لبنان ضغوطاً بيئية متزايدة نتيجة التوسع العمراني العشوائي، وسوء التخطيط الحضري، والتلوث الصناعي. في هذا السياق، يشكّل تقييم الأثر البيئي (EIA)، المنصوص عليه في المرسوم رقم 8633/2012، أداة وقائية بالغة الأهمية. فهذه العملية المنهجية تهدف إلى دراسة الآثار البيئية المحتملة لأي مشروع قبل الموافقة عليه أو تنفيذه، عبر تحديد وتوقّع وتقييم التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على البيئة الطبيعية والبشرية، بما في ذلك جودة الهواء والمياه، التنوع البيولوجي، الصحة العامة، والإرث الثقافي.

لكن أحد الأركان الجوهرية في هذه العملية، وهو "الجلسة العامة"، لا يزال مهمّشاً وغالباً ما يُتجاهل. وقد آن الأوان للاعتراف بأن أي تقييم بيئي لا يمكن أن يكون كاملاً أو فعّالاً دون مشاركة عامة حقيقية وشاملة.

الجلسات العامة ليست تفصيلاً شكلياً، بل حق قانوني وضرورة ديمقراطية. فالمادة السابعة من المرسوم 8633 تنص بوضوح على أنه في حال طلب إعداد تقرير تقييم أثر بيئي، يجب على صاحب المشروع إعلام الجهات المعنية، وعلى البلدية (أو المحافظة) الإعلان عن المشروع ومنح المواطنين مهلة 15 يوماً لتقديم ملاحظاتهم. بعدها، تراجع وزارة البيئة هذه الملاحظات خلال مهلة لا تتجاوز شهراً واحداً. هذه الآلية لا تهدف فقط إلى الإبلاغ، بل إلى تمكين المجتمعات المحلية من حماية بيئتها ومصالحها.

للأسف، كثيراً ما يتم تجاوز الجلسات العامة أو اختزالها في خطوات شكلية، فالإعلانات تُنشر في أماكن غير مرئية، والجلسات لا تُعلَن بشكل كافٍ، والملاحظات غالباً ما تُهمَل أو تُعالَج بسطحية. بذلك، يُفرَّغ التقييم البيئي من جوهره، ويُفقد دوره كأداة للوقاية من الضرر البيئي عبر إشراك الناس في قرارات تمس حياتهم.

الجلسة العامة الفعّالة تضمن ثلاثة عناصر أساسية: الشفافية، والمساءلة، والشرعية الاجتماعية. فعندما يشارك المواطنون، والمجتمع المدني، والبلديات في تقييم المشاريع، يقدّمون معرفة محلية قيّمة، يسلّطون الضوء على مخاطر قد لا ترصدها التقارير التقنية، ويقترحون بدائل أكثر ملاءمة واستدامة. هذا التفاعل الجماعي هو خط الدفاع الأول ضد المشاريع التي قد تُلحق أضراراً جسيمة بالأنظمة البيئية أو بالصحة العامة وموارد المياه.

والأهم، أن المشاركة العامة تعزز الثقة. ففي بلد هشّ الثقة بالمؤسسات، يمكن للجلسات العامة أن تشكّل خطوة نحو استعادة الشرعية وبناء علاقة جديدة بين المواطن والدولة، تقوم على الشراكة والاحترام المتبادل.

لذلك، على وزارة البيئة أن تعزّز تطبيق أحكام المشاركة العامة المنصوص عليها في المرسوم 8633، وأن تتعامل بصرامة مع أي انتهاك لها. كما تقع مسؤولية كبرى على عاتق المجتمع المدني، والسلطات المحلية، ووسائل الإعلام في مراقبة تنفيذ هذه الجلسات، والدفاع عن حق الناس في المشاركة البيئية.

يجب أن تُجمّد أي مشاريع لا تستوفي شروط المشاركة العامة، وأن تتضمّن تقارير تقييم الأثر البيئي توثيقاً واضحاً لكيفية التعامل مع ملاحظات المواطنين.

في بلد غني بتنوّعه البيئي ومعقّد بتركيبته السياسية، لا تُعدّ أصوات الناس تهديداً... بل هي المفتاح الغائب لتحقيق تنمية مستدامة وعادلة.